تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 38 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 38

38 : تفسير الصفحة رقم 38 من القرآن الكريم

** وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيَ أَنْفُسِهِنّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
هذا أمر من الله للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن, أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال, وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع, ومستنده في غير المدخول بها عموم الاَية الكريمة, وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي: أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها, ولم يدخل بها ولم يفرض لها, فترددوا إليه مراراً في ذلك, فقال أقول فيها برأيي, فإن يك صواباً فمن الله, وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان, والله ورسوله بريئان منه: لها الصداق كاملاً, وفي لفظ: لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط, وعليها العدة, ولها الميراث, فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, قضى به في بروع بنت واشق ففرح عبد الله بذلك فرحاً شديداً, وفي رواية: فقام رجال من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بروع بنت واشق. ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها, وهي حامل, فإن عدتها بوضع الحمل ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله: {وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ} وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع, أو أربعة أشهر وعشر للجمع بين الاَيتين, وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي, لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة الأسلمية المخرج في الصحيحين من غير وجه, أنها توفي عنها زوجها سعد بن خولة وهي حامل, فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته, وفي رواية: فوضعت حملها بعده بليال, فلما تعلت من نفاسها, تجملت للخطاب, فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك, فقال لها: ما لي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح ؟ والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك, جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك, فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي, وأمرني بالتزويج إن بدا لي, قال أبو عمر بن عبد البر: وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة, يعني لما احتج عليه به, قال: ويصحح ذلك عنه, أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة كما هو قول أهل العلم قاطبة. وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة, فإن عدتها على النصف من عدة الحرة, شهران وخمس ليال على قول الجمهور, لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحد, فكذلك فلتكن على النصف منها في العدة. ومن العلماء كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام لعموم الاَية, ولأن العدة من باب الأمور الجبلية التي تستوي فيها الخليقة, وقد ذكر سعيد بن المسيب, وأبو العالية وغيرهما, أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً, لاحتمال اشتمال الرحم على حمل, فإذا انتظر به هذه المدة, ظهر إن كان موجوداً, كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح» فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر, والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور, ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه, والله أعلم. قال سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة: سألت سعيد بن المسيب: ما بال العشر ؟ قال: فيه ينفخ الروح, وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة ؟ قال: لأنه ينفخ فيه الروح, رواهما ابن جرير, ومن ههنا ذهب الإمام أحمد, في رواية عنه, إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة ههنا, لأنها صارت فراشاً كالحرائر, وللحديث الذي رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة عن رجاء بن حيوة, عن قبيصة بن ذؤيب, عن عمرو بن العاص أنه قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا, عدة أم الولد, إذا توفى عنها سيدها أربعة أشهر وعشر. ورواه أبو داود عن قتيبة, عن غندر, وعن ابن المثنى, عن عبد الأعلى, وابن ماجه عن علي بن محمد, عن الربيع, ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عروبة, عن مطر الوراق, عن رجاء بن حيوة, عن قبيصة, عن عمرو بن العاص, فذكره. وقد روي عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث, وقيل إن قبيصة لم يسمع عمراً, وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف, منهم سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير, والحسن وابن سيرين وأبو عياض والزهري وعمر بن عبد العزيز, وبه كان يأمر يزيد بن عبد الملك بن مروان, وهو أمير المؤمين, وبه يقول الأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في رواية عنه, وقال طاوس وقتادة: عدة أم الولد إذا توفى عنها سيدها نصف عدة الحرة شهران وخمس ليال. وقال أبو حنيفة وأصحابه, والثوري والحسن بن صالح بن حيي: تعتد بثلاث حيض, وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي. وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه: عدتها حيضة, وبه يقول ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد وأبو ثور والجمهور, وقال الليث: ولو مات وهي حائض, أجزأتها. وقال مالك: فلو كانت ممن لا تحيض, فثلاثة أشهر. وقال الشافعي والجمهور: شهر وثلاثة أحب إليّ, والله أعلم.
وقوله: {فإذا بلغن أجلهنّ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعلمون خبير} يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها لما ثبت في الصحيحين عن غير وجه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أم المؤمنين, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاَخر أن تحد على ميت فوق ثلاث, إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً» وفي الصحيحين أيضاً عن أم سملة أن امرأة قالت: يا رسول الله, إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال «لا» كل ذلك يقول ـ لا ـ مرتين أو ثلاثاً, ثم قال: «إنما هي أربعة أشهر وعشر, وقد كانت إحداكم في الجاهلية تمكث سنة» قالت زينب بنت أم سلمة: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها, دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها, ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة, ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها, ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به. فقلما تفتض بشيء إلا مات, ومن ههنا ذهب كثيرون من العلماء إلى أن هذه الاَية ناسخة للاَية التي بعدها, وهي قوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج} الاَية, كما قاله ابن عباس وغيره, وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره. والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك, وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً, ولا يجب في عدة الرجعية قولاً واحداً, وهل يجب في عدة البائن فيه قولان. ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن, سواء في ذلك الصغيرة والاَيسة والحرة والأمة والمسلمة والكافرة, لعموم الاَية, وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا إحداد على الكافرة, وبه يقول أشهب وابن نافع من أصحاب مالك, وحجة قائل هذه المقالة قوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاَخر أن تحد على ميت فوق ثلاث, إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً» قالوا: فجعله تعبداً, وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثوري الصغيرة بها لعدم التكليف, وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة المسلمة لنقصها, ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع, والله الموفق للصواب.
وقوله {فإذا بلغن أجلهن} أي انقضت عدتهن, قاله الضحاك والربيع بن أنس, {فلا جناح عليكم} قال الزهري: أي على أوليائها. {فيما فعلن} يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن, قال العوفي عن ابن عباس: إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها, فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج, فذلك المعروف. وروي عن مقاتل بن حيان نحوه, وقال ابن جريج عن مجاهد {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} قال: النكاح الحلال الطيب, وروي عن الحسن والزهري والسدي ونحو ذلك.

** وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيَ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنّ وَلَـَكِن لاّ تُوَاعِدُوهُنّ سِرّاً إِلاّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُوَاْ عُقْدَةَ النّكَاحِ حَتّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِيَ أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
يقول تعالى: {ولا جناح عليكم} أن تعرضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح, قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم, عن منصور, عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به خطبة النساء} قال: التعريض أن يقول: إني أريد التزويج, وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها ـ يعرض لها بالقول بالمعروف ـ وفي رواية: وددت أن الله رزقني امرأة, ونحو هذا, ولا ينتصب للخطبة, وفي رواية: إني لا أريد أن أتزوج غيرك إن شاء الله, ولوددت أني وجدت امرأة صالحة, ولا ينتصب لها ما دامت في عدتها ورواه البخاري تعليقاً فقال: وقال لي طلق بن غنام, عن زائدة, عن منصور, عن مجاهد, عن ابن عباس {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء} هو أن يقول: إني أريد التزويج, وإن النساء لمن حاجتي, ولوددت أن ييسر لي امرأة صالحة, وهكذا قال مجاهد وطاوس وعكرمة وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والشعبي والحسن وقتادة والزهري ويزيد بن قسيط ومقاتل بن حيان والقاسم بن محمد وغير واحد من السلف والأئمة في التعريض: إنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها بالخطبة, وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات, فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم, وقال لها: فإذا حللت فآذنيني, فلما حلت, خطب عليها أسامة بن زيد مولاه, فزوجها إياه, فأما المطلقة فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها, والله أعلم.
وقوله {أو أكننتم في أنفسكم} أي أضمرتم في أنفسكم من خطبتهن, وهذا كقوله تعالى {وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون} وكقوله {وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم} ولهذا قال {علم الله أنكم ستذكرونهن} أي في أنفسكم, فرفع الحرج عنكم في ذلك. ثم قال: {ولكن لا تواعدوهنّ سر} قال أبو مجلز وأبو الشعثاء جابر بن زيد والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وسليمان التيمي ومقاتل بن حيان والسدي: يعني الزنا, وهو معنى الزنا, وهو معنى رواية العوفي عن ابن عباس, واختاره ابن جرير, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ولكن لا تواعدوهن سر} لا تقل لها: إني عاشق وعاهديني أن لا تتزوجي غيري, ونحو هذا, وكذا روي عن سعيد بن جبير والشعبي وعكرمة وأبي الضحى والضحاك والزهري ومجاهد والثوري, هو أن يأخذ ميثاقها أن لا تتزوج غيره. وعن مجاهد: هو قول الرجل للمرأة: لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك, وقال قتادة: هو أن يأخذ عهد المرأة وهي في عدتها أن لا تنكح غيره, فنهى الله عن ذلك, وقدم فيه وأحل الخطبة, والقول بالمعروف, وقال ابن زيد {ولكن لا تواعدوهن سر} هو أن يتزوجها في العدة سراً, فإذا حلت أظهر ذلك, وقد يحتمل أن تكون الاَية عامة في جميع ذلك, لهذا قال {إلا أن تقولوا قولاً معروف} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي والثوري وابن زيد: يعني به ما تقدم من إباحة التعريض كقوله: إني فيك لراغب ونحو ذلك, وقال محمد بن سيرين: قلت لعبيدة: ما معنى قوله {إلا أن تقولوا قولاً معروف} ؟ قال: يقول لوليها: لا تسبقني بها, يعني لا تزوجها حتى تعلمني, رواه ابن أبي حاتم.
وقوله {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} يعني ولا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضي العدة. قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وقتادة والربيع بن أنس وأبو مالك وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان والزهري وعطاء الخراساني والسدي والثوري والضحاك: {حتى يبلغ الكتاب أجله} يعني ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة, وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في العدة. واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها, فدخل بها, فإنه يفرق بينهما, وهل تحرم عليه أبداً ؟ على قولين: الجمهور على أنها لا تحرم عليه, بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها. وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد, واحتج في ذلك بما رواه عن ابن شهاب وسليمان بن يسار, أن عمر رضي الله عنه, قال: أيما امرأة نكحت في عدتها, فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما, ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول, وكان خاطباً من الخطاب, وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول, ثم اعتدت من الاَخر, ثم لم ينكحها أبداً وقالوا: ومأخذ هذا أن الزوج لما استعجل ما أحل الله, عوقب بنقيض قصده, فحرمت عليه على التأبيد كالقاتل يحرم الميراث. وقد روى الشافعي هذا الأثر عن مالك. قال البيهقي: وذهب إليه في القديم ورجع عنه في الجديد, لقول علي أنها تحل له. (قلت) قال: ثم هو منقطع عن عمر. وقد روى الثوري عن أشعث, عن الشعبي, عن مسروق, أن عمر رجع عن ذلك, وجعل لها مهرها وجعلهما يجتمعان.
وقوله: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه}, توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء, وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر, ثم لم يؤيسهم من رحمته, ولم يقنطهم من عائدته, فقال {واعلموا أن الله غفور حليم}.

** لاّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلّقْتُمُ النّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسّوهُنّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنّ فَرِيضَةً وَمَتّعُوهُنّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ
أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها, وقبل الدخول بها. قال ابن عباس وطاوس وإبراهيم والحسن البصري: المس النكاح, بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها والفرض لها, إن كانت مفوضة وإن كان في هذا إنكسار لقلبها, ولهذا أمر تعالى بإمتاعها وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله, على الموسع قدره, وعلى المقتر قدره. وقال سفيان الثوري, عن إسماعيل بن أمية عن عكرمة, عن ابن عباس: قال, متعة الطلاق أعلاه الخادم, ودون ذلك الورق, ودون ذلك الكسوة. وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: إن كان موسراً متعها بخادم أو نحو ذلك, وإن كان معسراً أمتعها بثلاثة أثواب. وقال الشعبي: أوسط ذلك درع وخمار وملحفة وجلباب, قال: وكان شريح يمتع بخمسمائه. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب بن سيرين, قال: كان يمتع بالخادم أو بالنفقة أو بالكسوة. قال: ومتع الحسن بن علي بعشرة آلاف, ويروى أن المرأة قالت: متاع قليل من حبيب مفارق. وذهب أبو حنيفة إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها. وقال الشافعي في الجديد: لا يجبر الزوج على قدر معلوم إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة, وأحب ذلك إليّ اني أستحسن ثلاثين درهماً, كما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقد اختلف العلماء أيضاً: هل تجب المتعة لكل مطلقة أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التي لم يفرض لها, على أقوال: أحدها أنها تجب المتعة لكل مطلقة لعموم قوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين} ولقوله تعالى: { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكنّ سراحاً جميل} وقد كن مفروضاً لهن ومدخولاً بهن, وهذا قول سعيد بن جبير وأبي العالية والحسن البصري, وهو أحد قولي الشافعي ومنهم من جعله الجديد الصحيح, والله أعلم.
(والقول الثاني) أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس, وإن كانت مفروضاً لها, لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميل} قال شعبة وغيره, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, قال: نسخت هذه الاَية التي في الأحزاب الاَية التي في البقرة. وقد روى البخاري في صحيحه, عن سهل بن سعد وأبي أسيد. أنهما قالا: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شرحبيل, فلما أدخلت عليه, بسط يده إليها, فكأنها كرهت ذلك, فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين أزرقين. (القول الثالث) أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها, فإن كان قد دخل بها, وجب لها مهر مثلها إذا كانت وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول, وجب لها عليه شطره, فإن دخل بها استقر الجميع, وكان ذلك عوضاً لها عن المتعة, وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها, فهذه التي دلت هذه الاَية الكريمة على وجوب متعتها, هذا قول ابن عمر ومجاهد, ومن العلماء من استحبها لكل مطلقة ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول, وهذا ليس بمنكور, عليه تحمل آية التخيير في الأحزاب, ولهذا قال تعالى: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين * وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين} ومن العلماء من يقول: إنها مستحبة مطلقاً. قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب القزويني, حدثنا محمد بن سعيد بن سابق, حدثنا عمرو ـ يعني ابن أبي قيس ـ عن أبي إسحاق, عن الشعبي, قال: ذكروا له المتعة, أيحبس فيها ؟ فقرأ {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} قال الشعبي: والله ما رأيت أحداً حبس فيها, والله لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة.

** وَإِن طَلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسّوهُنّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النّكَاحِ وَأَن تَعْفُوَاْ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
وهذه الاَية الكريمة مما يدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الاَية الأولى, حيث إنما أوجب في هذه الاَية نصف المهر المفروض إذا طلق الزوج قبل الدخول, فإنه لو كان ثم واجب آخر من متعة لبينها لا سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الاَية, والله أعلم. وتشطير الصداق والحالة هذه أمر مجمع عليه بين العلماء, لا خلاف بينهم في ذلك, فإنه متى كان قد سمى لها صداقاً ثم فارقها قبل دخوله بها, فإنه يجب لها نصف ما سمى من الصداق, إلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصداق إذا خلا بها الزوج وإن لم يدخل بها, وهو مذهب الشافعي في القديم, وبه حكم الخلفاء الراشدون, لكن قال الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد, أخبرنا ابن جريج عن ليث بن أبي سليم, عن طاوس, عن ابن عباس أنه قال في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها: ليس لها إلا نصف الصداق, لأن الله يقول: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} قال الشافعي: بهذا أقول, وهو ظاهر الكتاب. قال البيهقي وليث بن أبي سليم, وإن كان غير محتج به, فقد رويناه من حديث ابن أبي طلحة عن ابن عباس فهو مقوله.
وقوله: {إلا أن يعفون} أي النساء, عما وجب لها على زوجها, فلا يجب لها عليه شيء, قال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {إلا أن يعفون} قال: إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها. قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله: روي عن شريح وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد والشعبي والحسن ونافع وقتادة وجابر بن زيد وعطاء الخراساني والضحاك والزهري ومقاتل بن حيان وابن سيرين والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك. قال: وخالفهم محمد بن كعب القرظي فقال: {إلا أن يعفون} يعني الرجال, وهو قول شاذ لم يتابع عليه, انتهى كلامه.
وقوله: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} قال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن لهيعة حدثني عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «ولي عقد النكاح الزوج» وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد الله بن لهيعة به, وقد أسنده ابن جرير عن ابن لهيعة, عن عمرو بن شعيب, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ولم يقل عن أبيه عن جده, فالله أعلم. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود, حدثنا جابر يعني ابن أبي حازم, عن عيسى يعني ابن عاصم, قال: سمعت شريحاً يقول: سألني علي بن أبي طالب عن الذي بيده عقدة النكاح, فقلت له: هو ولي المرأة, فقال علي: لا, بل هو الزوج, ثم قال: وفي إحدى الروايات عن ابن عباس وجبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وشريح في أحد قوليه, وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعكرمة ونافع ومحمد بن سيرين والضحاك ومحمد بن كعب القرظي وجابر بن زيد وأبي مجلز والربيع بن أنس وإياس بن معاوية ومكحول ومقاتل بن حيان, أنه الزوج (قلت) وهذا هو الجديد من قولي الشافعي, ومذهب أبي حنيفة وأصحابه, والثوري وابن شبرمة والأوزاعي, واختاره ابن جرير, ومأخذ هذا القول أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة الزوج, فإن بيده عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها, وكما أنه لا يجوز للوليّ, أن يهب شيئاً من مال المولية للغير, فكذلك في الصداق, قال: والوجه الثاني حدثنا أبي حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا محمد بن مسلم, حدثنا عمرو بن دينار, عن ابن عباس ـ في الذي ذكر الله بيده عقدة النكاح ـ قال: ذلك أبوها أو أخوها أو من لا تنكح إلا بإذنه. وروي عن علقمة والحسن وعطاء وطاوس والزهري وربيعة وزيد بن أسلم وإبراهيم النخعي وعكرمة في أحد قوليه, ومحمد بن سيرين في أحد قوليه أنه الولي. وهذا مذهب مالك, وقول الشافعي في القديم, ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه, فله التصرف فيه بخلاف سائر مالها. وقال ابن جرير: حدثنا سعيد بن الربيع الرازي, حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة, قال: أذن الله في العفو وأمر به, فأي امرأة عفت جاز عفوها, فإن شحت وضنت عفا وليها جاز عفوه, وهذا يقتضي صحة عفو الولي وإن كانت رشيدة, وهو مروي عن شريح, لكن أنكر عليه الشعبي, فرجع عن ذلك وصار إلى أنه الزوج وكان يباهل عليه.
وقوله: {وأن تعفو أقرب للتقوى}. قال ابن جرير: قال بعضهم: خوطب به الرجال والنساء, حدثني يونس, أنبأنا ابن وهب, سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس {وأن تعفوا أقرب للتقوى} قال: أقربهما للتقوى الذي يعفو, وكذا روي عن الشعبي وغيره. وقال مجاهد والنخعي والضحاك ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والثوري: الفضل ـ ههنا ـ أن تعفوا المرأة عن شطرها أو إتمام الرجل الصداق لها, ولهذا قال {ولا تنسوا الفضل بينكم} أي الإحسان, قاله سعيد, وقال الضحاك وقتادة والسدي وأبو وائل المعروف: يعني لا تهملوه بل استعملوه بينكم, وقد قال أبو بكر بن مردويه, حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا موسى بن إسحاق, حدثنا عقبة بن مكرم, حدثنا يونس بن بكير, حدثنا عبد الله بن الوليد الرصافي عن عبد الله بن عبيد, عن علي بن أبي طالب, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتين على الناس زمان عضوض, يعض المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل, وقد قال الله تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} شرار يبايعون كل مضطر» وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وعن بيع الغرر, فإن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكاً إلى هلاكه, فإن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه. وقال سفيان: عن أبي هارون, قال: رأيت عون بن عبد الله في مجلس القرظي, فكان عون يحدثنا ولحيته ترش من البكاء, ويقول صحبت الأغنياء فكنت من أكثرهم هماً حين رأيتهم أحسن ثياباً, وأطيب ريحاً, وأحسن مركباً, وجالست الفقراء فاسترحت بهم, وقال {ولا تنسوا الفضل بينكم} إذا أتاه السائل وليس عنده شيء فليدع له, رواه ابن أبي حاتم {إن الله بما تعملون بصير} أي لا يخفى عليه شيء من أموركم وأحوالكم, وسيجزي كل عامل بعمله.